فى أوائل شهر ربيع الأول , وفى يوم الأربعاء بالذات بدأ وجع الحبيب - صلى الله عليه وسلم - , فأصابه صداع وحمى . وقبل هذه البداية المؤلمة ببعض الأيام , خطب - صلى الله عليه وسلم - الناس فنعى إليهم نفسه وهم لا يشعرون , إذ صعد المنبر , فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو أهله وقال : "إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده , فاختار ذلك العبد ما عند الله ", فبكى أبو بكر , فعجب الناس من بكائه . بكى لأنه فهم أن المخير هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وقال - صلى الله عليه وسلم - : "إن من أمَنِّ الناس على فى صحبته وماله : أبا بكر , ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً , ولكن أخوة الناس ومودته , لا يبقين فى المسجد باب إلا سد إلا باب أبى بكر ".
وفى جوف الليل , يوقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولاه أبو مويهبة ويقول : "يا أبا مويهبة , إنى قد أمرت أن استغفر لأهل هذا البقيع , فانطلق معى " فلما وقف بين أظهرهم قال :"السلام عليكم يا أهل المقابر ليهنئكم ما أصبحتم فيه بما أصبح الناس فيه . أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم , يتبع أولها آخرها . الآخرة شر من الأولى" ثم أقبل على أبى مويهبة وقال : "يا أبا مويهبة , إنى قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها , ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربى والجنة " , فقال : له أبو مويهبة , بأبى أنت وأمى , فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها , ثم الجنة فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربى والجنة , فقال : "لا والله يا أبا مويهبة , لقد اخترت لقاء ربى والجنة " . ثم استغفر - صلى الله عليه وسلم - لأهل البقيع ثم انصرف . فبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه الذى قبض فيه , إذ دخل على عائشة بعد رجوعه من البقيع فوجدها تشكو صداعاً وتقول : وارأساه ! فقال : "بل أبا والله يا عائشة وارأساه !!" ثم قال لها : وماضرك لو مت قبلى فقمت إليك وكفنتك , وصليت عليك ودفنتك " فقالت عائشة والله لكأنى بك لو قد فعلت ذلك , لقد رجعت إلى بيتى فأعرست فيه ببعض نسائك . قال عائشة رضى الله عنها : فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتتام به وجعه , وهو يدور على نسائه حتى استعز به _ وهو فى بيت ميمونة _ فدعا نساءه فاستأذنهن أن يمرض فى بيتى , فأذِنَّ له .
وبعد أن أذن له أمهات المؤمنين فى أن يمرض فى بيت عائشة رضى الله عنها خرج - صلى الله عليه وسلم - يمشى بين رجلين من أهله , هما : العباس وعلى , وهو عاصب رأسه , تخط قدماه حتى دخل بيت عائشة رضى الله عنها , ثم حمى - صلى الله عليه وسلم - واشتد به الوجع , فقال : "هريقوا على سبع قرب من ماء ؛ حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم " , قالت عائشة فأقعدناه فى مخضب لحفصة بنت عمر , ثم صب عليه الماء حتى طفق يقول : "حسبكم حسبكم !!" ثم خرج إلى الناس فصلى بهم وخطبهم , ثم ازداد مرضه فقال : " مروا أبا بكر فليصل بالناس " فقالت عائشة : إن أبا بكر إذا قام مقامك لا يسمع الناس من البكاء فمر عمر , فليصل بالناس , وكررت عليه عائشة القول , فكرر الإجابة حتى قالت عائشة لحفصة : قولى له : إن أبا بكر إذا قام مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمر عمر فليصل بالناس , فقالت له فقال - صلى الله عليه وسلم - :"مَهْ , إنكن لأنتن صواحب يوسف , مروا أبا بكر فليصل بالناس " , فقام أبو بكر يصلى بالناس , ووجد النبى - صلى الله عليه وسلم - من نفسه خِفَّةً , فخرج بين رجلين : العباس وعلى لصلاة الظهر , فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر , فأومأ إليه : أن لا تتأخر , وقال للرجلين : "أجلسانى إلى جنبه " , فأجلساه إلى جنب أبى بكر , فكان أبو بكر يصلى وهو قائم بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قاعد , والناس يصلون بصلاة أبى بكر .
وفى مرضه هذا قال لعائشة :"ما زلت أجد ألم الطعام الذى أكلت بخيبر , فهذا أوان وجدت انقطاع أبهرى من ذلك السم " .
ولما كان يوم الخميس قبل وفاته بأربع ليال اجتمع عنده ناس من أصحابه فقال : " ائتونى بكتفٍ ودواة , أكتب لكم كتاباً لن تضلوه بعده أبداً " . فتنازعوا عنده وأخذوا يردون عليه , فقال : "دعونى فالذى أنا فيه خير مما تدعونى إليه", وأوصاهم بثلاث : فقال : "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب , وأجيزوا الوفود بنحو ما كنت أجيزهم", وسكت عن الثالثة .
ولما كان يوم الاثنين الذى قبض فيه - صلى الله عليه وسلم - _ والناس فى صلاة الصبح وأبو بكر يصلى بالناس _ لم يفجأهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكشف ستر حجرة عائشة , فينظر إليهم وهم صفوف فى الصلاة , ثم تبسم يضحك , فنكص أبو بكر على عقبيه , ليصل الصف , وظن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد أن يخرج إلى الصلاة , وهمَّ الناس أن يفتنوا فى صلاتهم فرحاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - , فأشار إليهم بيده أن أتموا صلاتكم , ثم دخل الحجرة وأرخى الستار , وانصرف الناس وهم يرون أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قد أفاق من وجعه , فرجع أبو بكر إلى أهله بالسُّنْحِ . ودخل عبد الرحمن بن أبى بكر وفى يده سواك وأنا مسندة رسول الله إلى صدرى , فرأيته ينظر إليه , وعرفت أنه يحب السواك فقلت آخذه لك ؟ فأشار أن نعم , فتناولته فاشتد عليه , فقلت ألينه لك ؟ فأشار برأسه أن نعم , فلينته بأمره فاستن به , وهو مستند إلى صدرى , وبين يديه ركوة ماء فجعل يدخل يده فى الماء فيمسح بها وجهه ويقول : "لا إله إلا الله , إن للموت لسكرات " وآخر كلمة قالها : "اللهم الرفيق الأعلى " .
ومن سفهى وحداثة سنى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قبض فى حجرى , ثم وضعت رأسه على وسادة , وكانت تقول رضى الله عنها : إن من نعم الله على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفى فى بيتى , وفى يومى , وبين سحرى ونحرى , وأن الله جمع بين ريقى وريقه ؛ أن لينت له السواك فاستاك به .
فيوم الاثنين الثانى عشر من ربيع , ولد فيه , وأوحى إليه فيه , ووصل دار الهجرة فيه , وتوفى فيه , ولذا كان يصومه - صلى الله عليه وسلم - ويقول :"يوم الاثنين ولدت فيه وأوحى إلى فيه ".