" اذهبوا فأنتم الطلقاء "
أشهر مقولة فى السيرة النبوية قالها النبى - صلى الله عليه وسلم - عندما دخل مكة فاتحاً منتصراً بجيش لم ير العرب مثله وبعد أن طارده أهل مكة وآذوه وحاربوه وعذبوا أصحابه ..بعد كل هذا يعفو النبى - صلى الله عليه وسلم - عنهم جميعاً الذى أسلم منهم والذى ظل على كفره .
وبعد فتح خيبر أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - المسلمين برد صحف التوراة إلى اليهود عندما طلبوها ولم يصنع ما صنع الرومان حينما دخلوا أورشليم (القدس) وأحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم ، ولم يفعل مثلما فعل النصارى فى حروب اضطهاد اليهود فى الأندلس حين أحرقوا كذلك صحف التوراة .
ولقد كان هذا ديدن المسلمين دائماً وفى المعاهدات مع فارس نص على حرية أهلها فى شعائرهم الدينية.
وفى مصر أعطى عمرو بن العاص أهلها الأمان على كنائسهم وصلبهم.
وذكر السير توماس أرنولد أن بعض الخلفاء أمروا ببناء كنائس فى الشام والعراق وشمال الجزيرة ومصر، وأنفقوا عليها، ومازال بعضها قائمًا إلى اليوم مثل كنيسة (أبو سرجة) التى بنيت بالفسطاط فى العهد الإسلامى الأول .
ولم يفرق المسلمون بين الملكانية واليعاقبة، بل سووا بينهم، وأظلوهم بعدلهم.
ولم يكن اختلاف الدين مانعًا للذميين من أن يوظفوا فى الدولة. فقد اصطنع عمر بن الخطاب بعض أسارى قيسارية كُتَّابا له، ووظفهم فى الدولة.
وقد ظل كتاب الدواوين حتى زمن عبد الملك بن مروان من غير المسلمين، فكان كاتب الخراج فى الشام سوريا، وفى إيران فارسيًا، وفى مصر قبطيًّا، وقلما خلا ديوان من دواوين الدولة فى مصر من النصارى.
ونجد نصرانيًا واليًا على سجن بالقرب من الكوفة سنة 36هـ حينما كان الوليد بن عقبة عاملاً عليها.
ولقد شهد البطريرق (عيشويابه) الذى تولى منصبه سنة 647- 657 هـ (1249 - 1258م) بأن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون، إنهم ليسوا أعداء للنصرانية، بل يمتدحون ملتنا، ويوقرون قديسينا وقسيسينا، ويمدون يد المعونة إلى كنائسنا وديننا.
وقال ميشون فى تاريخ الحروب الصليبية:-
لما استولى عمر على مدينة أورشليم لم يفعل بالمسيحيين ضررًا مطلقا، ولكن لما استولى المسيحيون قتلوا المسلمين ولم يشفقوا،وأحرقوا اليهود إحراقًا.
وقال الحبر ميشون:-
ما يؤسف له أن المسلمين هم الذين كانوا يبدءون المسيحيين بالمسالمة وحسن المعاملة مع أن المسالمة هى منبع الخير بين الأمم بعضها وبعض، ولقد أيقنت من تتبعى للتاريخ أن معاملة المسلمين للمسيحيين تدل على ترفع فى المعاشرة عن الغلظة وتدل على حسن مسايرة ولطف ومجاملة، وهو إحساس لم يشاهد فى غير المسلمين إذ ذاك، خصوصًا أن الشفقة والرحمة والحنان كانت أمارات ضعف عند الأوربيين، وهذه حقيقة لا أرى وجهًا للطعن فيها.
وذكر نورمان بيتر : -
أنه لما فتح العثمانيون القسطنطينية كان أكثر الشعب المسيحى يرددون الكلمة المشهورة التى نطق بها رئيس دينى فى بيزنطة فى ذلك الحين، وهى: إنه لخير لنا أن نرى العمامة التركية فى مدينتنا من أن نرى فيها تاج البابوية.
وعن سماحة الإسلام يرد المسيحى نصرى سلهب اللبنانى على الصلبيين بقوله:
"..خاضت المسيحية الحروب الصليبية ضد الإسلام لإنقاذ الأماكن المقدسة كما يحلو للمؤرخين أن يرددوا ، والحروب الصليبية هذه كانت إحدى الأخطاء التاريخية العظمى .. فالأماكن المقدسة لم تكن فى خطر ولم يحاول واحد من الحكام المسلمين أن يمحوها أو أن يزيلها من الوجود . بل على العكس من ذلك فقد تجنب الخليفة عمر [رضى الله عنه] ، فى فجر الإسلام ، الصلاة فى كنيسة القيامة بغية الحفاظ على طابعها المسيحى وكذلك فعل الآخرون على مر الزمان "
قسوة اليهود على خصومها : لم تجر اليهودية على سماحة فى معاملة خصومها .
فقد جاء فى العهد القديم : -
حين تقرب من مدينة لتحاربها ادعها إلى الصلح ، فإن أجابتك وفتحت لك فكل من فيها مسخر لك ومستعبد . وإن لم تسألك وحاربتك فحاصرها . فإذا دفعها الربك إلهك إلى يدك فاضرب ذكورها بحد السيف وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما هو فى المدينة فهو غنيمة لك . وهكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جداً التى ليست من مدن هذه الأمم التى هنا . وأما مدن هذه الشعوب التى يعطيك الرب إياها فلا تستبق منها نسمة ما ، بل أهلكها إهلاكاً.
قسوة الدولة الرومانية والبيزنطية :-
ولما اعتنق بعض المصريين النصرانية ، نكلت بهم الدولة الرومانية الوثنية ، وطاردهم الوثنيون من الشعب ، حتى لقد سالت دماؤهم بشوارع الاسكندرية سنة 202م .
ونفى كثير منهم وقتل آخرون بالسيف أو أحرقوا بالنار أو الذبح قرباناً لآلهة الوثنية سنة 250 .
وفى سنة 304م نكل الامبراطور دقلديانوس بالقبط ، فنفى بعضهم من مصر ورومى بعضهم للوحوش الضارية فى حلقة الألعاب على مشهد من النظارة الوثنيين وطوح فى السجون بآلاف منهم وهدم كنائسهم وبلغ عدد الذين قتلوا فى عهده نحو مائة وأربعين ألفاً ، أكثرهم من القبط . وما زال القبط يذكرون هذا ويسمونه عصر الشهداء ويتخذونه مبدأ لتقويمهم الخاص ، ويبدءونه بحكم دقلديانوس سنة 284م.
وكان المفروض أن يستريح القبط من هذا الإعنات الوحشى إذا ما صارت المسيحية دين الدولة الرسمى ، لكنهم اصطلوا فى العهد المسيحى للدولة بمثل ما كانوا يصلونه فى عهدها الوثنى .
ذلك بأن كنيسة بيزنطة كانت صاحبة مذهب سمى بالمذهب الملكى وهو قائم على أن للمسيح طبيعتين إلهية وبشرية وكانت كنيسة الاسكندرية تدعو إلى مذهب آخر أساسه أن للمسيح طبيعة واحدة .
وجهدت الدولة البيزنطية فى أن تفرض مذهبها الملكى وأصر القبط على مذهبهم فنكلت بهم الدولة تنكيلاً ، كأنما حق على القبط أن ينصب عليهم طغيان الدولة وهى وثنية لاختلاف الدين وأن ينصب عليهم طغيانها وهى مسيحية لاختلاف المذهب فى الدين الواحد .
وحسبنا أن نشير إلى بعض ما احتملوا فى العهد المسيحى للدولة من عذاب أليم .
فقد أمر الامبراطور فوقاس (602-610) بعزل الأقباط من الحكومة وإجبارهم على طاعة الكنيسة الرسمية فى القسطنطينية .
ولم يكونوا فى عهد خلفه هرقل (610-641) أسعد حالاً ، ولا أهدأ بالاً ، لأن النزاع بينهم وبين الإمبراطورية كان على أشده وتبادل الفريقان تهمة الكفر والخيانة وكانت أيسر تهمة لمخالفى مذهب الإمبراطور أنهم وثنيون خونة .
فلم يكن عجباً أن رحب القبط بالمسلمين الفاتحين .
ولا غرابة فى قول المؤرخ المسيحى ميخائيل السورى : -
إن الله المنتقم الجبار آتى بأبناء إسماعيل من الصحراء لينقذوا الأمم من عسف الرومان ومن مظالم الروم.
وأما اليهود فقد كانوا قبل الفتح الإسلامى للأندلس يرزحون تحت عسف القوط وظلوا على ذلك زمناً طويلاً ، إلى أن دخل المسلمون الأندلس فخلصوهم من هذا الاضطهاد وسمحوا لهم بحرية التجارة التى كانت محظورة عليهم من قبل .