حاجة الإنسان إلى عبادة الله أمر فطري ثابت, وهو ما يحسه الإنسان على وجه الخصوص في حالة الشعور بالذنب أو في حال الشدة والخطر, فيتوجه إلى الله خالقه لفك كربته وحل أزمته، وقد وصف الله حال الكفار عند الشدة بأنهم يتوجهون إليه وحده, ويجأرون له بالدعاء قال تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 63-64].
وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 31-32].
وإن كانت هذه الحاجة متأصلة في نفوس الناس جميعًا فإنها آكدة عند المراهق (فتفكير المراهق المتميز يدعوه للتساؤل عن القضايا الكونية والنفسية وعن بدايات الإنسان وغاياته, وتتراكم عليه أسئلة كثيرة في هذا الباب, كما أن عواطفه جياشة, وأحاسيسه مرهفة, فهو كثير الخوف كثير الرجاء, سريع الشعور بالذنب والإحساس بالضعف، يتجه للمسجد أحيانًا ويحافظ على الصلوات والنوافل, ويكثر الدعاء والأوراد والأذكار، يعطف على الفقير والمحتاج والمظلوم، ويتجه إلى تبني حاجاتهم ومساعدتهم, ويتوق للعمل التطوعي والتعاون والجهد الجماعي ... كل هذا وغيره من الظواهر التي تشير إلى ميول المراهق الأكيدة للتدين والتعبد بصوره المختلفة, وهو أمر يلحظه كثير من الآباء والأمهات والمربين على المراهقين) [المراهقون, عبد العزيز النغيمشي].
حكمة ربانية
وهنا تبرز حكمة الحكيم العليم سبحانه الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير حين يربط بين هذه السن وبين التكليف الشرعي، حيث لا يحاسب الإنسان على أفعاله إلا بعد البلوغ كما قال صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة... وعن الصبي حتى يحتلم) [صححه الألباني], فخلق الله في نفس المراهق الرغبة والحاجة للعبادة والتقرب إلى الله حتى يسهل عليه الالتزام بتكاليف الشريعة الغراء, ويندفع إليها مشتاقًا محبًا.
(لقد توصلت دراسات معاصرة عديدة إلى أن المراهق في هذه المرحلة يعيش توجهًا نحو التدين، وهذا مما يكشف لنا عن شيء من حكمة ارتباط التكليف الشرعي بهذه المرحلة.
يبدأ المراهق في التساؤل عن نفسه من أين أنا؟ وكيف جئت؟ يبدأ يتساءل عن سر خلق الوجود والكون، ويبحث عن الإجابة التي تقنعه حول هذه التساؤلات، وقد يهتدي إلى المنهج السليم، وقد يضل ويزيغ.
ومن الظواهر الملفتة في ذلك ما نراه من بعض الشباب في هذه المرحلة، من إقبال على التدين والعبادة لله عز وجل، حتى من بعض الذين لم ينشؤوا في بيئة محافظة, لكن الواقع السيئ للمجتمع كثيراً ما يفسد هذه الفطرة، ويجر الشاب بعيداً عن الطريق الشرعي) [المراهقون الوجه الآخر, د.محمد الدويش].
وهذا الأمر لا يقتصر على بلاد الإسلام فحسب؛ ولكنها الفطرة التي أودعها الله في النفس البشرية أنى وجدت (وقد أشارت العديد من الدراسات النفسية الميدانية إلى هذا التوجه والميول عند المراهقين والمراهقات في البلدان المختلفة) [سيكولوجية المراهقة, إبراهيم قشقوش], (وهو موجود عند المراهقين جميعًا وهذا الميل أمر تؤيده الفطرة, ويعززه النضج العقلي والمعرفي الذي يصل إليه المراهق, وتذكيه عواطفه الغزيرة, وأحساسيسه المرهفة) [المراهقون, عبد العزيز النغيمشي].
كما أن هذا الميل للعبادة والدين في مرحلة المراهقة، له كبير الأثر على نفسيه المراهق وانفعالاته, فشتان بين شاب نشأ في طاعة الله متمسكًا بالأخلاق الحميدة يعلم ما له وما عليه ولا يجد غضاضة في السيطرة على شهواته وملذاته ابتغاء مرضاة الله, شتان بين هذا الشاب وبين شاب آخر لا تجده إلا مشتتًا حائرًا ضائعًا, يبحث عما يسد رمق شهوته وغريزته, لا يألو على خلق أو عرف أو دين بسبب ضعف ارتباطه بالله, واهتراء علاقته مع الله, شتان بين من انضبطت مشاعره وأحاسيسه بشرع الله تعالى, فلا يصدر منه قول إلا وقد وزنه بميزان الشرع الحنيف، وبين من تخرج انفعالاته ومشاعره بلا رابط أو ضابط.
ولذلك فإن (الشعور الديني في المراهقة عامل قوي في تغيير مثيرات واستجابات المراهق الانفعالية) [الأسس النفسية للنمو, أحمد فؤاد البهي السيد].
منقوووووول