قال: هات يا أبا أسحق.
قال: أما الأولى: فإذا أردت أن تعصي الله فلا تأكل من رزقه: قال: فمن أين
آكل، وكل ما في الأرض من رزقه؟، قال: يا هذا، أفيحسن بك أن تأكل رزقه
وتعصيه؟
قال: لا، هات الثانية.
قال: إن أردت أن تعصيه فلا تسكن أرضه، قال: هذه أعظم، فأين أسكن؟ قال: يا هذا، أفيحسن بك أن تأكل رزقه وتسكن أرضه، ثم تعصيه؟
قال: لا، هات الثالثة.
قال: إذا أردت أن تعصيه، وأن تأكل من رزقه، وتسكن أرضه، فانظر موضعاً لا يراك فيه، فأعصه فيه!.
قال: يا إبراهيم: ما هذا؟ وهو يطلع على ما في السرائر؟ قال: يا هذا،
أفيحسن بك أن تأكل رزقه، وتسكن أرضه وتعصيه وهو يراك، ويعلم ما تجاهر به
وما تكتمه؟
قال: لا، هات الرابعة.
قال: فإذا جاءك الموت ليقبض روحك، فقل له: أخرني حتى أتوب توبة نصوحاً، وأعمل لله صالحاً، قال: لا يقبل مني؟
قال: يا هذا، إنك إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب، وتعلم أنه إذا جاءك لم يكن له تأخير، فكيف ترجو وجه الخلاص؟
قال: هات الخامسة.
قال: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة، ليأخذوك إلى النار فلا تذهب معهم؟ قال: لا يدعونني، ولا يقبلون مني كلماً.
قال: فكيف ترجو النجاة إذن؟
قال: يا إبراهيم، حسبي، حسبي، أستغفر الله، وأتوب إليه، فكان لتوبته وفياً، فلزم العبادة، واجتنب المعاصي، حتى فارق الدنيا.
السعيد من نجا
إن الله تعالى قد سخر للإنسان ما في الأرض جميعاً، رحمة به، وإحساناً
إليه، وذلل له سبل الانتفاع بها، وجعل له الأرض مستقراً ومتقلباً، يسعى في
كون الله الفسيح، ليحقق طموحه وآماله، وبسط عليه نظره: يقظة ومناماً،
حفظاً ورعاية، توفيقاً وتسديداً، كل ذلك وسواه كثير ليحيا في ظلال الطاعة،
وينعم بعز العبودية.
فكم يشقى بعد ذلك من يتقلب في هذا النعيم، ثم يبادر مولاه بما يغضبه ويسخطه؟!
وهب أن عبداً نسي في ظلمه الغفلة المنعم سبحانه، وجرى مع لهوه وهواه! فهل
ينسى أن له أجلاً محدوداً، وأمداً لا يستأخر عنه ساعة، ولا يستقدم؟
إن كل أسباب القوة والعافية لا تؤخر داعي الموت لحظة إذا حان الأجل!.
سبيل الموت غاية كل حي
وداعية لأهل الأرض داعي
ثم هل ينكر مؤمن أن له بعد الموت بعثاً ونشوراً، وحساباً وجزاءً، منتهاها
إحدى منزلتين: إما نعيم مقيم، في مستقر الرحمة ودار الرضوان:
(تلك عقبى الذين اتقوا) (الرعد:35)
وإما إلى
( نار وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) (6) (التحريم)
فالسعيد من نجا، ولا نجاة بغير طريق الهدى، والمؤمن من فاز، ولا فوز إلا
باليقظة والحذر، والتسربل بالتقوى
والورع، فقد جرى بذلك القضاء وسبق
الكتاب:
( تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ) 63 (مريم).
إن المسلم الواثق بالله يُوقن بأنّ الله لن ُيتركه ولن يُضيعه إذا ما تخلى
عنه كل من في الأرض فثقته بما عند الله أكبر من ثقته بما عند الناس .
والإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأنه لا حول لأي قوة في العالم ولا
طول لها إلا بعد أن يأذن الله، الإيمان بالله يقتضي أن يوقن العبد بأن هذا
الكون وما فيه من أنواع القوى ما هي إلا مخلوقات مسخرة لله، تجري بأمر
الله وتتحرك بقضائه وقدره. ((وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ
ءامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ
رَهَقا)) الجن:13
الواثق بالله تراه دائماً هادئ البال ساكن النفس إذا ادلهمت وزادت عليه
الخطوب والمشاكل فهو يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن
ليصيبه ولسان حاله :
((قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ
الْمُؤْمِنُونَ ))التوبة