إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله { يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاْ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأنتُمْ مُسلِمُونَ } { يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُم رَقِيباً } { يَآ أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَ قُولُواْ قَولاً سَدِيداً ، يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَ يَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيِمَاً }
أما بعد :
فإنَّ أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وشرَّ الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
معاشر الأحبة .. حاضرين وحاضرات .. مستمعين ومستمعات .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وحيَّاكم الله وبيَّاكم ، وسددعلى طريق الحق خطاي وخطاكم .. أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في داركرامته إخواناً على سرر متقابلين .. أسأله سبحانه أن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن وأن يجعلنا هداة مهتدين لاضالين ولا مضلين .. عنوان هذه الليلة المباركة في هذا المكان المبارك مع هذا الحضور المبارك :
عذراً رمضان ..
عذراً رمضان ..
لماذا الموضوع ومم سيتكون !!.. سيتكون من العناصر التالية : - لماذا الاعتذار ؟!. - وقفة تفكر قبل البداية . - ثم شهر رمضان . - ثم كتب عليكم الصيام . - ثم المطلوب منكَ ومنكِ ومني . - ثم بدأ غريباً وسيعود غريباً . - ثم الغرباء مع الصيام . - ثم لكِ من أخبار الصائمات . - ثم أنواع الصائمين . - ثم عذراً رمضان . - ثم النداء الأخير.
الاعتذار لأننا في كل عام نكرر نفس الخطأ والأخطاء مع رمضان .. قبل دخوله - أي قبل دخول رمضان - بأيام نعد أنفسنا ونمنيها .. سنصنع كذا .. وسنقوم من الليالي كذا وكذا .. سنختم القرآن مرات ومرات .. وسنبذل من الصدقات .. ثم ما إن يدخل رمضان وتمضي أول الأيام حتى تفشل المخططات وتذهب الأمنيات .. أتدري ؟؟!! أتدرين ما السبب ؟؟!! السبب أننا نريد أن نلزم أنفسنا بأعمال ما تعودناها ..نريد أن نلزم أنفسنا بأعمال ما تعودناها قبل رمضان .. فلا عجب سرعان ما تفشل المخططات .. متى عهدنا بالقيام ، وختم القرآن ، ومداومة الصيام ؟! .. أما هم فكان العام كله عندهم كله رمضان.. فإذا دخل عليهم ارتفعت الهمم فزادوا في القربات .. فعذراً رمضان ابتداءً لأن أكثرنا سيعيد وسيكرر نفس الخطأ والأخطاء..
كنا في العام الماضي في مثل هذه الأيام نرقب شهر الصوم ونتحراه ثم ماذا !!.. عام كامل بأيامه وليلاليه قد قوَّض خيامه ، وطوى بساطه ، وشدَّ رحاله بما قدمنا فيه من خير أو شر ، وصدق الله { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } ، { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً }، { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ }، وصدق الله حين قال { يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ }.
قال ابن كثير رحمه الله : تمر بنا الأيام تترى ، وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر .. إنَّ الدقائق والثواني التي ذهبت من أعمارنا لن تعود ، ولو أنفقنا جبال الأرض ذهباً وفضة.. اعلم واعلمي.. أنَّ الأنفاس معدودة والآجال محدودة .. واعلم واعلمي ..أنّّ من أعظم نعم الله علينا أن مدّ في أعمارنا وجعلنا ندرك هذا الشهر العظيم إن أدركناه .. فكم غيَّب الموت من صاحب ، ووارى التراب من حبيب .. تذكروا من صام معنا العام الماضي وصلى العيد ، ثم أين هو؟! وأين هي الآن ؟!.. غيبهم الموت ووارهم التراب ، ونسيهم الأهل والأحباب .. اجعل واجعلي لكِ من هذا الحديث نصيباً ، قال صلى الله عليه وسلم : ( اغتنم خمساً قبل خمس : اغتنم حياتك قبل موتك ، وصحتك قبل سقمك ، وفراغك قبل شغلك ، وشبابك قبل هرمك ، وغناك قبل فقرك ) راوه الحاكم .. احرصوا رعاكم الله أن تكونوا من خيار الناس كما قال صلى الله عليه وسلم وأخبر حين سُئل أي الناس خير ؟! أي الناس خير ؟! قال : ( من طال عمره وحسن عمله )..
عند أحمد والنسائي من حديث أبو هريرة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم رمضان فكان يقول لهم : ( قد جاءكم شهر رمضان ، شهر مبارك ، افترض الله عليكم صيامه ، يفتح فيه أبواب الجنة ، ويغلق فيه أبواب الجحيم ، وتُغل فيه الشيطان ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حُرم خير تلك الليلة فقد حُرم الخير ) عند أحمد والنسائي من حديث أبي هريرة .
قال ابن رجب هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان .. كيف لا يُبشّر المؤمن بفتح أبواب الجنان !. كيف لا يُبشّر المذنب بغلق أبواب النيران !. كيف لا يُبشّر العاقل بوقت يُغلّ فيه الشيطان !. من أين يشبه هذا الزمان زمان ؟! قال معلى ابن الفضل : كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ، ثم يدعونه ستة أشهر أن يتتقبل منهم رمضان . وقال يحيى ابن كثير كان من دعائهم : اللهم سلمني إلى رمضان ، وسلم لي رمضان ، وتسلمه مني متقبلاً يا رب الأنام . فمرحب بشهر طيب مبارك كريم . في رمضان أُنزل القرآن والكتب السماوية .. في رمضان الشفاعة بالصيام والقرآن.. في رمضان التراويح والتهجد.. في رمضان التوبة وتكفير الذنوب .. في رمضان تصفد الشياطين .. في رمضان تغلق أبواب الجحيم وتفتح أبواب الجنان .. في رمضان الجود والإحسان والعتق من النيران .. في رمضان الصبر والشكر والدعاء .. في رمضان مضاعفة الحسنات وليلة القدر .. رمضان شهر الجهاد والانتصار .. فكيف لا يفرح المؤمن بشهر هذا بعض ما فيه ..
بين الجوانح في الأعماق سكناه فكيف أنسى و من في الناس ينساه !
ولم أزل في هواه ما نقضت له عهدا و لا محت الأيام ذكراه
قد شاخ جسمي ولكن في محبته ما زال قلبي فتي في عشق معناه
في كل عام لنا لقيا محببة يهتز كل كياني حين ألقاه
بالعين بالقلب بالآذان أرقبه و كبف لا و أنا بالروح أحياه !
والليل تحلو به اللقيا وإن فصرت ساعتها أُحيا لها و أحلاه
فنوره يجعل الليل البهيم ضحىً فما أجلّ و ما أجلي مُحَيّاه
ألقاه شهراً ولكن في نهايته يمضي كطيف خيال قد لمحناه
في موسم الطهر في رمضان الخير تجمعنا محبة الله لا مال و لا جاه
من كل ذي خشية لله ذي ولعٍ بالخير تعرفه دوما بسيماه
قد قدّروا مواسم الخيرات فاستبقوا والاستباق هنا المحمود عقباهُ
صاموه قاموه إيماناً واحتساباً أحيوه طوعاً وما في الخير إكراهُ
وكلهم بآيات القرآن مندمجاً كأنه الدم يسري في خلاياهُ
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}...الحمكة من الصيام ليس أن يمنع الإنسان نفسه عن الطعام والشراب والنكاح ، ولكن كما قال الله { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } وما أشار إليه النبي الكريم صلوات ربي وسلامه عليه في قوله : ( من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام ( من لم يدع قول الزور ) هو كل قول محرَّم أو العمل به - أي بالزور- أي كل فعل محرَّم .. و( الجهل ) : قال هو العدوان على الناس وعدم الحلم .
تحقيق تقوى الله جلَّ في علاه .. تقوى الله هي الغاية المنشوده والدره المفقوده.. قال سبحانه : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ} وقال صلى الله عليه وسلم : ( اتق الله حيثما كنت ).. والتقوى في أبسط معانيها : فعل المأمور وترك المحذور .. فهل ترانا حققنا هذا بصيامنا !! أم نحن ممن بالنهار يتقيه وبالليل يعصيه !!!. كتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل : أوصيك بتقوى الله .. أوصيك بتقوى الله عز وجل التي لا يقبل غيرها ولا يرحم إلاَّ أهلها ولا يثيب إلا عليها ، فإنَّ الواعظين بها كثير والعاملين بها قليل .. جعلني الله وإياك من المتقين .. تقوى الله : أكرم ما أسررت ، وأزين ما أظهرت ، وأفضل ما ادخرت ، والآخرة عند ربك للمتقين . إليك موجزاً وبعضاً من أخبار المتقين .. قال البخاري : ما اغتبت مسلماً منذ احتلمت . وقال الشافعي : ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً ، ولو أعلم أنَّ الماء يفسد علي مروءتي ما شربته . قيل لمحمد بن واسع : لمَ لا تتكأ ؟! قال : إنما يتكأ الآمن وأنا لا زلت خائفاً .. إنما يتكأ الآمن وأنا لا زلت خائفاً .. وقُرأ على عبد الله بن وهب : { وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ } فسقط مغشياً عليه . وحج مسروق فما نام إلا ساجداً . وقال أحدهم : ما كذبت منذ علمت أنَّ الكذب يضر أهله .. وقال أبوسليمان الدارني : كل يوم أنا أنظر في المرآة هل اسودَّ وجهي من الذنوب .. هذا حالهم ..فكيف هو حالي وحالك ؟؟!!..
لبسنا الجديد ، وأكلنا الثريد ، ونسينا والوعيد ، وأمّلنا الأمل البعيد .. رحماك يا رب .. لماذا تريد الحياة ؟! .. لماذا تعشق العيش ؟! .. إذا لم تدمع العينان من خشية الله جل في علاه !!.. إذا لم نمدح الله بالسحر !!.. إذا لم نزاحم بالركب في حلق الذكر !!.. إذا لم نصم الهواجر ، ونخفي الصدقات !!.. هل العيش إلا هذا ؟؟!!.. قالوا : إذا لم تستطع قيام الليل ، وصيام النهار فاعلم أنك محروم ..
قال صلى الله عليه وسلم : ( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء ) . إنّّ الذي يقرأ ويسمع عن أخبار السلف ، وقلة من الخلف يعلم أنَّ الدين يعيش غربة بين أهله .. من سمع عن صيامهم ، وقيامهم ، وجهادهم أيقن أنَّ الواقع اليوم يحتاج إلى مراجعة وتصحيح .. فتعالوا أحبتي ننظر في بعض صور الغرباء في رمضان ، ومع الصيام ، ونقول ونكرر : عذراً رمضان ..
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ما مات عمر حتى سرد الصوم . أما أمير البررة وقتيل الفجرة عثمان .. قال أبو نُعيم عنه : حظه من النهار الجود والصيام ، ومن الليل السجود والقيام .. مبشر بالبلوى ، منعَّمٌ بالنجوى .. تقول عنه زوجه.. وعن الزبير بن عبد الله عن جده عن جدةٍ له يقال لها هيمه : كان عثمان يصوم الدهر ، ويقوم الليل إلا هجعة من أوله .. رضي الله عنه .. قتلوه وقد كان صائماً والمصحف بين يديه والدموع على لحيته وخديه .. حبيب محمد ووزير صدقٍ ورابع خير من وطأ التراب . أما أبو طلحة الأنصاري الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل ) .. عن أنس رضي الله عنه قال : كان أبو طلحة لا يصوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو .. فلما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره يفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر . أما حكيم الأمة وسيد والقراء أبا الدرداء فقد قال : لقد كنت تاجراً قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فلما بُعث زاولت العبادة والتجارة فلم يجتمعا فأخذت بالعبادة وتركت التجارة.. تقول عنه زوجه : لم تكن له حاجة في الدنيا ، يقوم الليل ويصوم النهار ما يفتر.. لله درهم.. أما من خبر الإمام القدوة المتعبد المتهجد عبد الله بن عمر فيكفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( نعمَ العبد عبد الله ) .. قال عنه نافع : كان ابن عمر لا يصوم في السفر ولا يكاد يفطر في الحضر . وعن سعيد بن جابر قال : لما اُحتضر ابن عمر قال : لا آسى على شيء من الدنيا إلا على ثلاث : ظمأ الهواجر ، ومكابدة الليل ، وأني لم أقاتل الفئة الباغية التي نزلت بنا – يعني الحجاج - . وإليكَ وإليكِ مزيد .. و كرروا معي عذراً رمضان .. عن رجاء بن حيوه عن أبي أمامة : أنشأ رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً فأتيته فقلت يا رسول الله :ادعو الله لي بالشهادة ، فقال : ( اللهم سلمهم وغنمهم ) فغزونا فسلمنا وغنمنا .. حتى ذكر ذلك ثلاثة مرات ، قال ثم أتيته فقلت : يا رسول الله : إني أتيتك تترى – يعني ثلاث مرات – أسألك أن تدعو لي بالشهادة فقلت : ( اللهم سلمهم وغنمهم ) فسلمنا وغنمنا .. يا رسول الله فمرني بعمل أدخل به الجنة .. مرني بعمل أدخل به الجنة، فقال (عليك بالصوم فإنه لامثل له ) ، قال فكان أبو أمامة لا يُرى في بيته الدخان نهاراً إلا إذا نزل بهم ضيف ، فإذا رأوا الدخان نهاراً عرف الناس أنهم قد اعتراهم الضيوف .. عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفارنا في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحرارة وما فينا صائم إلا نبينا صلى الله عليه وسلم وابن رواحة .. أما مسروق بن عبد الرحمن الذي كان في العلم معروقاً ، وبالضمان موثوقاً ، ولعبادة الله معشوقاً.. قال عنه الشعبي : غشيت على مسروق في يوم صائف ..وكانت عائشة قد تبنته فسمي ابن عائشة .. وكان لا يخالف ابنته في شيء .. قال فنزلت عليه ابنته في يوم فقالت : ابتاه أفطر واشرب .. قال : ما أردت يا بنيه ؟ – ماذا تريدين من هذا الكلام –؟ قالت : الرفق – أن ترفق في نفسك أبتاه – قال : يا بنيه إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .. إنما طلبت الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة .. فماذا صنع الله لهم !!، وماذا أعد لهم !! .. قال سبحانه { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً ، وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ، مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلَا زَمْهَرِيراً ، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } إلى أن قال لهم { إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } وهذا خبر أخير عن المُبشر المحزون ، المستتر المخزون ، تجرد من التلاد وتشمر للجهاد وقدم العتاد للمعاد : العلاء بن زياد .. كان ربانياً تقياً قانتاً لله بكّاءً من خشية الله .. عن هشام بن حسان أن العلاء بن زياد كان قوت نفسه رغيفاً كل يوم .. كان يصوم حتى يخضر أو يصلي حتى يسقط .. فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا له : إن الله تعالى لم يأمرك بهذا كله ، فقال : إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئاً إلا جئته.. قال له رجل يوما : رأيت كأنك في الجنة ، فقال له : ويحك أما وجد الشيطان أحداً يسخر به غيري وغيرك .. قال له رجل : إني رأيتك في الجنة ، فقال له : ويحك أما وجد الشيطان أحداً يسخر به غيري وغيرك .. قال سلمة بن سعيد : رُؤي العلاء بن زياد أنه من أهل الجنة فمكث ثلاثاً لا ترقأ له دمعة ولا يكتحل بنوم ولا يذوق طعاماً ، فأتاه الحسن فقال : أي أخي أتقتل نفسك أن بُشرت بالجنة!! فازداد بكاءً ، فلم يفارقه حتى أمسى وكان صائماً فطعم شيئا من الطعام.. قال الله عنهم:{ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ، لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ، يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ، وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ، إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }.
وكرري وقولي عذراً رمضان .. عن عبد الرحمن بن قاسم أن عائشة كانت تصوم الدهر .. وعن عروة أنَّ عائشة كانت تسرد الصيام .. قال القاسم : كانت تصوم الدهر لا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر .. بعث لها معاوية مرة بمائة ألف درهم فقسّمتها ولم تترك منها شيئاً ، فقالت بريرة : أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً ، فقالت : لا تعنفيني ، لو كنت أذكرتني لفعلت .. إنها الصديقة بنت الصديق ، العتيقة بنت العتيق ، حبيبة الحبيب ، وأليفة القريب ، المبرأة من العيوب رضي الله عنها وأرضاها ... أما القوَّامة الصوّامة حفصة بنت عمر رضي الله عنها وعن أبيها وعن أخوتها وآل عمر .. وارثة الصحيفة ، الجامعة للكتاب .. فعن قيس بن زيد أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة فدخل عليها خالاها قدامة وعثمان ابنا مظعون ، فبكت وقالت : والله ما طلقتني عن شبع .. والله ما طلقني عن شبع ، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم قد أقبل فتجلببت رضي الله عنها ، قال فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ جبريل قد أتاني فقال : راجع حفصة فإنها صوّامة قوَّامه ، وإنها زوجتك في الجنة ) فأي شهادة أعظم من شهادة الله وجبريل لحفصة رضي الله عنها ، وأنعم بها من عبادة كانت سبباً لرجوع أم المؤمنين حفصة إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم لتبقى له زوجة في الجنة . قال نافع : ماتت حفصة حتى ما تفطر.. وإليك مزيد .. اسمعي ونادي بأعلى الصوت .. عذراً رمضان .. عذراً رمضان ..
عن سعيد بن عبد العزيز قال : ما بالشام ولا بالعراق أفضل من رحمة العابدة مولاة معاوية .. دخل عليها نفر من القرّاء فكلموها لترفق بنفسها ، فقالت: ما لي وللرفق بها فإنما هي أيام مبادرة وأيام معدودة فمن فاته اليوم شيء لم يدركه غداً .. والله يا أخوتاه .. لأصلينَّ لله ما أقلتني جوارحي .. ولأصومنَّ له أيام حياتي .. ولأبكينَّ له ما حملت الماء عيناي .. ثم قالت : أيكم يأمر عبده فيحب أن يقصر في حقه !!.. ولقد قامت رحمها الله حتى أُقعدت .. وصامت حتي اسودت .. وبكيت حتى فقدت بصرها .. كانت تقول : علمي بنفسي قرّح فؤادي وكَلَمَ قلبي .. والله لوددت أن الله لم يخلقني ولم أكُ شيئاً مذكوراً. كانت رحمها الله تخرج إلى الساحل فتغسل ثياب المرابطين في سبيل الله ، قال الله عنهم : { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} .. { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }، وقال عنهم حين دخلوا الجنان { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ ، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ، إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ، فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ. }
عذراً رمضان ..
فلو كان النساء كما ذكرنَّ لفُضلّت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخرٌ للهلال
أخي .. أخية .. هذه أنواع الصائمين ذكرتها لنعرف أنفسنا ونقدم الاعتذار .. ونقول عذراً رمضان . من صام عن الطعام والشراب فصومه عادة . ومن صام عن الربا والحرام ، وأفطر على الحلال من الطعام فصومه : عدة وعبادة . ومن صام عن الذنوب والعصيان ، وأفطر على طاعة الرحمن فإنه : صائم رضا . ومن صام عن القبائح ، وأفطر على التوبة لعلام الغيوب فهو : صائم تقى . ومن صام عن الغيبة والنميمة والبهتان ، وأفطر على تلاوة القرآن فهو :صائم رشيد. ومن صام المنكر ، وأفطر على الفكرة والاعتبار فهو : صائم سعيد . ومن صام عن الرياء والانتقاص،وأفطر على التواضع والإخلاص فهو:صائم سالم. ومن صام عن خلاف النفس والهوى ، وأفطر على الشكر والرضا فهو : صائم غانم . ومن صام عن قبيح أفعاله ، وأفطر على تقصير آماله فهو : صائم مشاهد. ومن صام عن طول أمله ، وأفطر على تقريب أجله فهو : صائم زاهد. قال ابن القيم :الصوم لجام المتقين ، الصوم لجام المتقين ، وجنة المحاربين ، ورياضة الأبرار المقربين لرب العالمين .. يكفيك قول الله : ( الصوم لي ) ( الصوم لي وأنا أجزي به )
يا قادماً بالتقى في عينك الحب طال اشتياقي فكم يهفو لكم قلب
صبرت عاماً أمنّي قرب عودتكم نفسي فهل يدنو لكم بها سرب
قل هلَّ طيفكم فاخضر عامرنا والله أكرمنا إذ جاءنا الخصب