هجرة الرسول
حين عزم رسول الله على ترك مكة إلى المدينة ، ألقى الوحي الكريم في قلبه وعلى لسانه هذا الدعاء الجميل
(( وقل : ربِّ أدخلني مُدخلَ صدقٍ وأخرجني مخرج صدق. واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً )) .
ولا نعرف بشراً أحق بنصر الله وأجدر بتأييده مثل هذا الرسول الذي لاقى في جنب الله ما لاقى . ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه وتوفير وسائله .
ومن ثم فإن رسول الله أحكم خطة هجرته ، وأعدَّ لكل فرض عدته ، ولم يدع في حسبانه مكاناً للحظوظ العمياء .
وشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة ، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح ، ثم يتوكل بعد ذلك على الله ، لأن كل شيء لا قيام له إلا بالله .
فإذا استفرغ المرء جهوده في أداء واجبه فأخفق بعد ذلك ، فإن الله لا يلومه على هزيمة بلي بها ، وقلما يحدث ذلك إلا قدر قاهر يعذر المرء فيه !!
وكثيراً ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيباً حسناً ، ثم يجيء عون أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
كالسفينة الذي يشق عباب الماء بها ربان ماهر ، فإذا التيار يساعدها والريح تهب إلى وجهتها، فلا تمكث غير بعيد حتى تنتهي إلى غايتها في أقصر من وقتها المقرر.
وهجرة رسول الله من مكة إلى المدينة جرت على هذا الغرار ، فقد استبقى رسول الله معه علياً وأبا بكر ، وأذن لسائر المؤمنين بتقدمه إلى المدينة .
فأما أبو بكر فإن الرسول قال له حين استأذنه ليهاجر : لا تعجل ، لعل الله أن يجعل لك صاحباً . وأحس أبو بكر كأن الرسول يعني نفسه بهذا الرد !.
فابتاع راحلتين فحبسهما في داره ، يعلفهما إعداداً لذلك.
وأما علي فإن الرسول هيأه لدور خاص ، يؤديه في هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار !.
قال ابن إسحاق : فحدثني من لا أتهم عن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، أنها قالت : كان لا يخطئ رسول الله أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار : إما بكرة ، وإما عشياً ، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه ، أتانا رسول الله بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها . قالت : فلما رآه أبو بكر قال : ما جاء رسول الله في هذه الساعة إلا لأمر حدث . فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره ، فجلس رسول الله وليس عند رسول الله أحد إلا أنا وأختي أسماء ، فقال رسول الله : أخرج عني من عندك ، قال : يا رسول الله ، إنما هما ابنتاي .
وما ذاك ـ فداك أبي وأمي ـ ؟ .
قال : إن الله أذن لي بالخروج والهجرة . فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله ؟ قال : الصحبة.
قالت عائشة : فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي !! .
ثم قال : يا نبي الله إن هاتين الراحلتين كنت أعددتهما لهذا ، فاستأجرا عبد الله ابن أريقط ـ وهو مشرك ـ (!) يدلهما على الطريق . ودفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.
قال ابن اسحاق : ولم يعلم ـ فيما بلغني ـ بخروج رسول الله أحد حين خرج ـ يقصد نوى الخروج ـ إلا علي وأبو بكر وآله . أما علي فإن رسول الله أمره أن يتخف حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس وكان رسول الله ، ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده ، لما يعلم من صدقه وأمانته ..
درس في سياسة الأمور
ويلاحظ أن النبي عليه الصلاة السلام كتم أسرار مسيره ، فلم يطلع عليه إلا من لهم صلة ماسة ، ولم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم .
وقد استأجر دليلاً خبيراً بطريق الصحراء ليستعين بخبرته على مغالبة المطاردين ونظر في هذا الاختيار إلى الكفاية وحدها . فإذا اكتملت في أحد ـ ولو مشركاً ـ استخدمه وانتفع بموهبته .
ومع هذه المرونة في وضع الخطة فإن النبي عليه الصلاة والسلام أصر أن يدفع ثمن راحلته، وأبى أن يتطوع أبو بكر به ، لأن البذل في هذه الهجرة ضرب من العبادة ينبغي الحرص عليه وتستبعد النيابة فيه .
واتفق الرسول عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر على تفاصيل الخروج ، وتخيروا الغار الذي يأوون إليه ، تخيروه جنوباً في اتجاه اليمن لتضليل المطاردين ، وحددوا الأشخاص الذين يتصلون بهم في أثناء اللجوء إليه ، ومهمة كل شخص .
ثم عاد الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيته ، فوجد قريشاً بدأت تضرب الحصار حوله ، وبعثت بالفتيان الذين وكل إليهم اغتيال محمد عليه الصلاة والسلام وتفريق دمه بين القبائل !!
وأوعز الرسول عليه الصلاة والسلام إلى علي بن أبي طالب في هذه الليلة الرهيبة أن يرتدي برده الذي ينام فيه ، وأن يتسجى به على سريره. وفي هجعة من الليل وغفلة من الحرس ، نَسَلَ الرسول عليه الصلاة والسلام من بيته إلى دار أبي بكر ، ثم خرج الرجلان من خوخة في ظهرها إلى غار ثور .. إلى الغار الذي استودعته العناية مصير الرسالة الخاتمة ، ومستقبل حضارة كاملة ، وتركته في حراسة الصمت والوحشة والإنقطاع ..
في الغار
وسارت الأمور على ما قدّرا ، وكان أبو بكر قد أمر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما ، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك من أخبار . وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار. فكان عبد الله بن أبي بكر في قريش ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله وأبي بكر ، ثم يأتيهما إذا أمسى فيقص عليهما ما علم ، وكان عامر في رعيان أهل مكة ، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا ، فإذا غدا عبد الله من عندهما إلى مكة ، ابتع عامر بن فهيرة أثره بالغنم يعفي عليه . وتلك هي الحيطة البالغة كما تفرضها الضرورات المعتادة على أي إنسان ..
وانطلق مشركو مكة في آثار المهاجرين يرصدون الطرق ويفتشون كل مهرب ، وراحوا ينقبون في جبال مكة ، وكهوفها ، حتى وصلوا ـ في دأبهم ـ قريباً من غار ثور ، وأنصت الرسول وصاحبه إلى أقدام المطاردين تخفق إلى جوارهم ، فأخذ الروع أبا بكر ، وهمس يحدث رسول الله : (( لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا )) فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : (( يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما )) .
ويظهر أن المطاردين داخلهم القنوط من العثور عليهما في هذا الفج ، فتراكضوا عائدين
وروى أحمد : (( أن المشركين اقتفوا الأثر حتى إذا بلغوا الجبل ـ جبل ثور ـ اختلط عليهم ، فصعدوا الجبل فمروا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت . فقالوا : لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه . فمكث فيه ثلاث ليال)).
ورواية أحمد حسنة ، وإن لم ترد بها السنن الصحاح ، ولم يرد كذلك ذكر لحمائم باضت على فم الغار أو غير ذلك .
قال تعالى في ذكر الهجرة : (( إلا تنصروه فقد نصرهُ الله * إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغارِ إذْ يقول لصاحبه : لا تحزن إن الله معنا * فأنزل الله سكينتهُ عليه ، وأيَّده بجنودٍ لم تروها * وجعلَ كلمةَ الذين كفروا السفلى * وكلمةَ الله هي العليا * والله عزيزٌ حكيم )).
والجنود التي يخذل بها الباطل وينصر بها الحق ليست مقصورة على نوع معين من السلاح ولا صورة خاصة من الخوارق ، إنها أعم من أن تكون مادية أو معنوية ، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتمثل في ضخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب (( وما يعلم جنود ربك إلا هو )) .
ومن صنع الله لنبيه أن تعمى عنه عيون أعدائه وهو منهم على مد الطرف ، ولم يكن ذلك محاباة من القدر لقوم فرطوا في استكمال اسباب النجاة ، بل هو مكافأة من القدر لقوم لم يدعوا وسيلة من وسائل الحذر إلا اتخذوها ، وكم من خطة يضعها أصحابها فيبلغون بها نهاية الإتقان تمر بها فترات عصيبة لأمور فوق الإرادة أو وراء الحسبان ثم تستقر أخيراً وفق مقتضيات الحكمة العليا وفي حدود قوله تعالى :
(( واللهُ غالبٌ على أمرهِ ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمونَ )) .
انتظروا الجزء الثانى من هجرة الرسول عليه افضل الصلاة والسلام
باءذن الله المولى تعالى