في الطريق إلى المدينة
مرت ثلاث ليال على مبيت الرسول عليه الصلاة والسلام في الغار ، وخمد حماس المشركين في الطلب ، وتأهب المهاجران لاستئناف رحلتهما الصعبة .
وجاء ( عبد الله بن أريقط ) في موعده ومعه رواحله قد أعلفها لاستقبال سفر بعيد ، وتزود الركب ثم سار على اسم الله .
غير أن قريشاً سائها أن تخفق في استرجاع محمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه ، فجعلت دية كل واحد منهما جائزة لمن يجيء بهما أحياء أو أمواتاً .
ومائتان أو مائة من الإبل في الصحراء ثروة تغري بركوب المخاطر وتحمل المشاق.
وقد قدّر رسول الله أن المشركين لن يألوا جهداً في الإساءة إليه ، فالتزم في سيره جانب المحاذرة ، وأعانتهم مهارة الدليل على سلوك دروب لم تعتدها القوافل ، ثم أطلق الزمان للرواحل فمضت تصل النهار بالليل.
رمى بصـدور العيـس منخرق الصَّبا
| فلم يدر خلقٌ بعدها أين يمما ؟
|
فلما مروا بحي بني مدلج مصعدين ، بَصُر بهم رجل من الحي فقال : لقد رأيت آنفاً أسْوِدَة بالساحل، ما أظنها إلا محمداً وأصحابه ، ففظن إلى الأمر سراقة بن مالك ورغب أن تكون الجائزة له خاصة فقال : بل هم فلان وفلان قد خرجوا لحاجة لهم .
ومكث قليلاً ثم قام فدخل خباءه وقال لخادمه : أخرج بالفرس من وراء الخباء وموعدك خلف الأكمة .
قال سراقة : فأخذت رمحي وخرجت من ظهر البيت وأنا أخط بزجه الأرض، حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها ففرت بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها ! فقمت ..
وامتطى سراقة فرسه مرة أخرى وزجرها فانطلقت حتى قرب من الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحبه ، وكان أبو بكر يكثر الالتفات يتبين هذا العدو الجسور ؟
فلما دنا عرفه فقال لرسول الله ـ وكان ماضياً إلى غايته ـ : هذا سراقة بن مالك قد رهقنا وما أتم كلامه حتى هوت الفرس مرة أخرى ملقية سراقة من على ظهرها ، فقام معفراً ينادي بالأمان !!.
وقع في نفس سراقة أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق فاعتذز إليه وسأله أن يدعو الله له وعرض عليهما الزاد والمتاع ، فقالا : لا حاجة لنا ، ولكن عم عنا الطلب ، فقال : قد كفيتم ، ثم رجع فوجد الناس جادين في البحث عن محمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه ، فجعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا رده وهو يقول : كفيتم هذا الوجه! .
أصبح أول النهار جاهداً عليهما ، وأمسى آخره حارساً لهما ... !!
دعـاء
[right]إن أسفار الصحراء توهي العمالقة الآمنين . فكيف بركب مهدر الدم مستباح الحق ؟ .ما يحس هذه المتاعب إلا من صلي نارها ، لقد برزنا لوهج الظهيرة يوماً فكادت الأشعة البيضاء المنعكسة على الرمال تخطف أبصارنا ، فعدنا مغمضين نستبقي من عيوننا ما خفنا ضياعه .
وعندما تصبح وتمسي وسط وهاد ونجاد لا تنتهي حتى تبدأ ، تخال العالم كله مهامه مغبرة الأرجاء داكنة الأرض والسماء .
وجرت عادة المسافرين أن يأووا في القيلولة إلى أي ظل في بطاح ينتعل كل شيء فيها ظله ، حتى إذا جنحت الشمس للمغيب تحركت المطايا اللاغبة تغالب الجفاف والكرى .
وللعرب طاقة على احتمال هذا الشظف من قلة الزاد والري .
وقد مر بك أن الرسول ـ وهو طفل ـ قطع هذه الطريق ، ذهب مع أمه لزيارة قبر أبيه ثم عاد وحده .
وإنه الآن ليقطعها وقد بلغ الثالثة والخمسين ، لا لزيارة أبويه اللذين ماتا بالمدينة ، بل لرعاية رسالته التي تشبثت بأرض يثرب جذورها ، بعد ما تبرمت مكة بها وبصاحبها وبمن حوله ...
إنه أرسخ أهل الأرض يقيناً بأن الله ناصره ومظهر دينه ، بيد أنه أسيف للفظاظة التي قوبل بها ، وللجحود الذي لاحقه من بدء رسالته حتى اضطره إلى الهجرة على هذا النحو العنيف ، ها هو ذا يخرج من مكة وقد أعلن سادتها عن الجوائز المغرية لمن يغتاله ...
روى أبو نعيم أن رسول الله لما خرج من مكة مهاجراً إلى الله قال :
(( الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئاً . اللهم أعني على هول الدنيا وبوائق الدهر ومصائب الليالي والأيام . اللهم اصحبني في سفري ، واخلفني في أهلي ، وبارك لي فيما رزقتني ، ولك فذللني ، وعلى صالح خلقي فقومني ، وإليك ربِّ فحببني ، وإلى الناس فلا تكلني . رب المستضعفين وأنت ربي . أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض ، وكشفت به الظلمات ، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين أن تحل علي غضبك ، وتنزل بي سخطك . وأعوذ بك من زوال نعمتك ، وفجأة نقمتك ، وتحول عافيتك ، وجميع سخطك . لك العتبى عندي خير ما استطعت . ولا حول ولا قوة إلا بك )) .
***
ومما يلفت النظر أن إنطلاق الرسول من مكة شاع في جنوب الصحراء، وكأن أسلاك البرق طيرته إلى أقصى البقاع . فعلم به البدو والحضر على طول الطريق حتى يثرب ، بل إن المحال التي عرج بها وصل نبؤها إلى أهل مكة بعد أن انصرف عنها .
الوصول إلى المدينة
وكذلك ترامت أخبار المهاجر العظيم وصاحبه إلى المدينة ، فكان أهلها يخرجون كل صباح يمدون أبصاره إلى الأفق البعيد ، ويتشوفون إلى مقدمه بلهفة . فإذا اشتد عليهم الحر عادوا إلى بيوتهم يتواعدون الغد ، وملء جوانحهم الترقب ، والقلق ، والرجاء .
وفي اليوم الثاني عشر من ربيع الأول لثلاث عشرة سنة من البعثة برز الأنصار على عادتهم منذ سمعوا بمخرج الرسول عليه الصلاة والسلام إليهم ، ووقفوا بظاهر المدينة ينتظرون طلعته ويودون رؤيته . فلما حميت الظهيرة وكادوا ييأسون من مجيئه وينقلبون إلى بيوتهم ، صعد رجل من اليهود على أطم من آطامهم لبعض شأنه فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام وصحبه يتقاذفهم السراب ، وتدنو بهم الرواحل رويداً رويداً إلى المدينة إلى وطن الإسلام الجديد ، فصرخ اليهودي بأعلى صوته : يا بني قيلة ، هذا صاحبكم قد جاء ، هذا جدكم الذي تنتظرون فأسرع الأنصار إلى السلاح يستقبلون به رسولهم ، وسمع التكبير يرج أنحاء المدينة ، ولبست ((يثرب)) حلة العيد ومباهجه .
قال البراء : أول من قدم علينا من أصحاب رسول الله مصعب بن عمير ، وابن ام مكتوم . فجعلا يقرئان الناس القرآن ، ثم جاء عمار ، وبلال ، وسعد ، ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين راكباً . ثم جاء رسول الله فلما رأيت الناس فرحوا بشيء كفرحهم به، حتى رأيت النساء والصبيان و الإماء يقولون : هذا رسول الله قد جاء .
يا عجباً لنقائض الحياة واختلاف الناس ! إن الذي شهرت مكة سلاحها لتقتله ، ولم ترجع عنه إلا مقهورة ، استقبلته المدينة وهي جذلانة طروب ، وتنافس رجالها يعرضون عليه المنعة والعدة والعدد ...
ومن الطريف أن كثيراً من أهل المدينة لم يكن رأى رسول الله ، فلما قدم الركب لم يعرفوه من أبي بكر لأول وهلة ، حتى إن العوائق كن يتراءينه فوق البيوت يقلن : أيهم هو ؟
ونزل النبي في بني عمرو بن عوف ، فأقام فيهم أربع عشرة ليلة أسس خلالها مسجد قباء . وهو أول مسجد أسس في الإسلام . وفيه نزل قوله تعالى : (( لمسجد أسس على التقوى من أوَّل يومٍ أحقّ أن تقوم فيه . فيه رجال يحبونَ أن يتطهروا )) .
استقرار المدينة
رجل العقيدة يسير طوعاً لها ، ويجد طمأنينته حيث تقر عقيدته وتلقى الرحب والسعة .
والناس ينشدون سعادتهم فيما تعلقت به هممهم وجاشت به أمانيهم ، وهم ينظرون إلى الدنيا وحظوظهم منها على ضوء ما رسب في نفوسهم من عواطف وأفكار ..
فطالب الزعامة يرضى أو ينقم ، وينشط أو يكسل بمقدار قربه أو بعده من أمله الحبيب .
أنظر المتنبي كم مدح وهجا ؟ وكيف انتقل من الشام إلى مصر ، ومن مصر إلى غيرها ، وانظر إلى ذكره أحاديث الناس عنه وعن بغيته .
يقولون لي : ما أنت في كل بلدة وما تبتغي ؟ ما أبتغي جلّ أن يُسمى
والذي جل أن يسمى صرح به في مكان آخر ، فطلب أن تناط به ضيعة أو ولاية !! أي بعض ما وضعته الحظوظ في أيدي الملوك والملاك ، وإنه ليتعجل هذا الأمل من كافور فيقول :
أبا المسـك في الكأس فضل أنا له ؟ فإني أغني منذ حين وتشرب !
والمتنبي في نظري أهل ـ بكفايته ـ للمناصب الرفيعة . ولكن التطلع إلى الدنيا بهذا النزق والإلحاح ، محكوم بالمشيئة التي ذكرتها الآية الكريمة :
(( من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ... )) .
ومن الناس من يتعش الجمال ويجري وراء النساء ويجد في المتعة بهن نهمته التي يسكن بعدها ويستكين ويقول :
لا أرى الدنيا على نور الضحى
|
| بل أرى الدنيا على نور العيون
|
ومنهم من يبحث عن المال ويقضي سحابة نهاره وشطر ليله يتتبع الأرقام في دفاتره ، يحصي ما وقع في يده ويتربص بما لم يقع ، وربما ذهل عن طعامه ولباسه في غريزة الاقتناء التي سدّت عليه المنافذ .
***